المهدية/ البليعة أو الميناء العتيق: هل عثرت السلط حقا على “الكروسة” الذهبية الغارقة في الأعماق؟



ما زال عبق الخرافة يفوح من ذلك الميناء. تروي الأسطورة أن عربة  ذهبية بجوادين هما أيضا من الذهب الخالص ابتلعتها رمال الميناء العتيق ببرج الراس وجراء هذه الحادثة درجت أجيال على تسميته البليعة
يبدو الميناء في شكله  موروثا عن الحضارة البونيقية ولكن التاريخ لا يؤكد ولا ينفي. وتتناقل ألسنة بعض المهتمين بالحضارات والتاريخ أن عبيد الله المهدي وجد الميناء جاهزا فاستغله بعد أن حسنه ورممه.  لا يذكر للسلط الجهوية المتعاقبة بعد استقلال تونس أن أعارت لهذا المعلم أهمية تذكر سوى عمليات جهر لا تتعدى أصابع الأيادي الواحدة.

هكذا تموت الأسطورة

 في سنوات خلت كانت الحركة لا تهدأ في الميناء العتيق. أصحاب المراكب الصغيرة يتوزعون هنالك  منذ انبلاج الخيط الأبيض بين مبحر لالتقاط رزقه وبين قابع على سطح المركب لترقيع ما انقطع من  شبك الصيد من أثر الصخر والموج والدلافين وبين ساع  إلى إصلاح مركبه بعد أن ذهب لونه وتباعدت ألواحه. ثم تتوالى أفواج من الصغار على التوافد إلى الميناء للنبش عن الدود  الوجبة المفضلة للسمك والذي انقرض تماما اليوم أو لصيد القمبري الصغير.
وكان الكثير من الصغار يفضلون إمضاء قوائل الصيف بالميناء وقد جهزوا أنفسهم بقوارير مقعرة يملؤونها بلبابة الخبز  ويضعونها في ماء الميناء ليظفروا بصيد سمك البوري. كان الميناء على بساطته حافلا بالحياة وكان الصخب يملأ مختلف جنباته إلى درجة أن أشهر لاعبي فريق مكارم المهدية لكرة القدم عندما كان اسم الفريق مرعبا في القسم الوطني آنذاك لا يحلو لهم إجراء مقابلاتهم إلا في الملعب المحاذي للميناء الذي اندثر وتلاشى معه لاعبو الكرة بعد إحدى عمليات جهر وتوسعة للميناء.
  يبدو الميناء حاليا قطعة من تراث مرمية على الأرض بدأ عشاقه يتضاءلون وابتلع هو بدوره الأسطورة فلم يعد للكروسة الذهبية الدفينة في رماله أي ذكر واستسلم البحارة إلى فعل الزمن فلا حاولوا استعادة مجده ولاطوروا من طرق استغلاله وهرب الكثير منهم إلى قبلة عمل أخرى لعلهم يجنون ربحا أوفر.
وكأنما البليعة ابتلعت أبناءها فما عاد الميناء معلم حضارة ولكنه وجه من وجوه الكآبة في بلدة أجمل ما فيها جبانة. لم يسع المسؤولون قط على التفكير في بث الروح في ذلك الميناء ربما ليأس منصدق الأسطورة

وربما هكذا تبعث من جديد

هنالك فوق الميناء بطحاء قد تستحيل كروسة تجلب لأهل البلدة كل يوم ذهبا. لو يفكر مسؤولو التراث والقائمون على الشأن العام بالمهدية بالتشجيع على استثمار ذكي في تلك البطحاء القاحلة الآن. مثلا لماذا لا يفكر هؤلاء بإنشاء سوق لسمك تلك المراكب ويقيمون بقرب تلك المراكب مطاعم مختصة في طهو السمك وغلال البحر تكون قبلة للسواح التونسيين والأجانب؟
ربما يقولون إن بالمكان آثارا تستوجب الحفظ ولكن لو ننشئ سوقا من قصب ولوح ومطاعم مصنوعة من الأخشاب على هيئة أكواخ ألا نعيد لتلك الآثار وهجها وندعم حفظها؟ ربما بمثل هذه الأفكار وغيرها نجد كروسة الذهب التي تهب برج الرأس  لونا زاهيا من ألوان الحياة.

بقلم محمد صفر